الأحد، 28 فبراير 2016

"آيس كريم في جليم"


عصام زكريا


آيس كريم فى جليم» هو أحد الأفلام المظلومة بين أعمال المخرج خيرى بشارة والسينما المصرية عموما.
فى اعتقادى يعبر الفيلم عن روح بشارة وعن أفضل مميزاته أكثر من أى عمل آخر. هذه الروح الساخرة والميل إلى اللعب والتجريب طالما حدت منهما الظروف الإنتاجية والثقافية السائدة، ولكن فى «آيس كريم فى جليم» يبدو وكأن هذه الظروف قد علقت، مؤقتا، فى لحظة تاريخية نادرة علقت خلالها شروط السوق والقناعات السياسية والقواعد الفنية.
صنع الفيلم عام ١٩٩٢، بعد وقت قصير من سقوط سور برلين ثم الاتحاد السوفيتى، ومن احتلال العراق للكويت وحرب الخليج الثانية، ومن صعود التيارات الإسلامية المتطرفة وتحولها إلى أعمال الإرهاب والعنف المسلح فى مصر وبلاد إسلامية أخرى.
هذه الأحداث الكبيرة هزت قناعات وثوابت كثيرة لدى اليسار المصرى الذى شاهد أفلام موجة «الواقعية الجديدة» طوال فترة الثمانينات، والتى ضمت الأفلام الواقعية الشاعرية لخيرى بشارة مثل «الطوق والأسورة» و«يوم حلو ويوم مر» قبل أن يقوم بصنع فيلم «كابوريا» ١٩٩٠، الذى صنف وقتها باعتباره فيلما تجاريا يتخلى فيه عن أفلامه الجادة الملتزمة لصناعة عمل يغازل الجماهير وشباك التذاكر. 
شكل «كابوريا» نقطة تحول فى مسيرة بشارة، وقطيعة مع أعماله السابقة، قرر بعدها أن يضع الإيرادات والذوق الشعبى فى اعتباره.
كان «آيس كريم» بداية تعاون خيرى بشارة والسيناريست مدحت العدل وشركة إنتاج «العدل جروب»، والذى امتد إلى أعمال بشارة التالية كلها، «أمريكا شيكا بيكا»، و«إشارة مرور»، و«حرب الفراولة» و«قشر البندق».
هذه المجموعة من الأفلام لها صفات مشتركة، أهمها الميزانية المنخفضة، وروح الارتجال، والتجريب، ومحاولة التوفيق بين الموضوع الجاد والترفيه الجماهيرى.. يمكننا أن نقول إنها، بشكل ما، حملت إرهاصات السينما المستقلة التى ظهرت بعد ذلك بسنوات.
توفرت لفيلم «آيس كريم» مجموعة من المواهب التى قلما اجتمعت فى فيلم مصرى: مخرج مبدع فى أعلى مراحل نضجه الفنى، وقصة من تأليف أديب هو محمد المنسى قنديل، وكاتب سيناريو وأغانٍ صاحب أعمال، هو مدحت العدل، وأكبر نجم غنائى شاب، عمرو دياب، ومغنية وممثلة موهوبة، سيمون، وكوميديان محبوب، أشرف عبدالباقى، ووجه جديد ناضر، جيهان فاضل، وممثل مخضرم صاحب حضور، على حسنين. يضم الفيلم أيضا مجموعة من أفضل أغانى عمرو دياب وموسيقى الرائع، كملحن وممثل، حسين الإمام.
من المدهش ظهور هذا الفيلم وسط حالة الانهيار العامة التى كانت تعانى منها صناعة السينما المصرية، حيث شهدت بداية التسعينيات أكبر تراجع فى عدد الأفلام المصرية المنتجة سنويا، وتقلص دور العرض السينمائى إلى أقل عدد لها بجانب التردى المزرى لتقنيات الصناعة صورة وصوتا وانهيار دور العرض القديمة. من ناحية ثانية شهدت بداية التسعينات انهيارا متلاحقا للأيديولوجيات والأفكار السياسية الكبرى، الاشتراكية والقومية والوطنية، التى عانت إقليميا وعالميا من صدمات مؤثرة.. وهو ما يطرحه الفيلم بشكل غير مباشر من خلال قصة تبدو عادية وبسيطة جدا فى حبكة درامية تكاد تكون مرتجلة وفضفاضة.
فى واحد من مشاهد الفيلم التى تلخص فكرته يدور حوار بين منتج الأغانى «الشبابية» زيكو، حسين الإمام، الشاعر الناصرى نور، أشرف عبدالباقى، والموسيقار الماركسى العجوز، زرياب، على حسنين، والمطرب الشاب سيف، عمر دياب، الباحث عن نفسه بعيدا عن الأنماط والقوالب.
يسأل زيكو نور: «انت شيوعى يالا؟» فيجيبه «لأ.. ناصرى»، فيسأله زيكو مجددا: «وزرياب.. شيوعى؟» فيجيبه: «لأ.. ماركسى»، فيعلق زيكو ساخرا: «يا بنى الأفكار دى راحت خلاص»، فيرد نور «الأفكار لا يمكن تموت».. لكن المشهد، والفيلم بأسره، يحمل سخرية وشفقة على كل من نور وزرياب، حتى إن الأخير ينسحب بعد هذا المشهد، ليقضى ليلة أخيرة بين الخمر والجنس، قبل أن يودع الحياة.
«آيس كريم فى جليم» هو واحد من أوائل الأفلام على المستوى المحلى التى يمكن نسبها إلى اتجاه «ما بعد الحداثة»، ومن الطريف أن عام إنتاجه شهد على المستوى العالمى الميلاد السينمائى لاثنين من فطاحل سينما ما بعد الحداثة، هما الأسترالى باز لورمان بفيلمه «قاعة للرقص فقط» وكوينتين تارانتينو بفيلمه «كلاب المستودع»، وكلا الفيلمين حقق نجاحا كبيرا فنيا وجماهيريا!
بعيدا عن المقارنة بين الأفلام الثلاثة، التى تختلف فى الموضوع والأسلوب، تحمل الثلاثة بعض السمات الرئيسية لسينما ما بعد الحداثة: روح التهكم والسخرية التى تتفشى عبر تفاصيل العمل.. الارتجال.. التمثيل الذى يجمع بين الاحتراف والأداء العفوى.. الخلط بين الأنواع والأساليب الفنية.. التحرر من قواعد السرد والإخراج التقليدية.
فى «آيس كريم...» يبدو خيرى بشارة وكأنه غير مبال بكل التقاليد الفنية و«السياسية» للسينما المصرية «الجادة» التى تتراوح بين الميلودراما العائلية والواقعية الاجتماعية، ناسجا نوعا من المحاكاة الساخرة لهذه التقاليد.. وعلى العكس من أسلوبه الكلاسيكى المحكم فى «العوامة ٧٠» و«الطوق والأسورة» و«يوم حلو.. يوم مر»، يترك خيرى بشارة هنا العنان لنوع من التفكك الأسلوبى المقصود، المغلف بالمرح والرغبة فى اللعب.
يحلم سيف دائما بفتاة جميلة رآها مرة واحدة فى حياته فى محل آيس كريم، وبالصدفة يلتقيها مجددا فى المحل نفسه قرب نهاية الفيلم، لكن الحلم يتحول إلى نكتة عندما تهوى الفتاة بقمع الآيس كريم على وجهه.
عندما شاهدت الفيلم لأول مرة فى عرضه السينمائى، انتابتنى حالة من الدهشة والبهجة التى لا تنسى، بالرغم من أننى حتى ذلك الوقت كنت لا أزال متمسكا بالأفكار القديمة التى يسخر منها الفيلم.
بعد أيام ذهبت لمشاهدة الفيلم مرة أخرى، واستمتعت به أكثر، وحتى الآن، عندما يعرض فى التليفزيون كل فترة أشاهده بنفس الحالة.. وبغض النظر عن الأفكار التى بت أؤمن بها، فإننى أضحك، على الأفكار، وعلى نفسى، مثلما يفعل زرياب وسيف، لأن الحياة لا تستحق أبدا أن نصدقها أو نتجهم من أجلها.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق